لم تقف تعاليم المسيح الأخلاقية عند حدود محبة القريب كالنفس بل تعدّت ذلك الى محبة الأعداء. لم تقف تعاليمُه هذه عند حدود الغفران، بل دعت إلى غفران مستمر. لم يدعُ المسيح الإنسان لمعاملة أخاه بالرحمة فقط، بل دعاه لأن يعامله كما يريد أن يُعامَل هو. لم يدعُ الإنسان للعظمة والسيادة بل دعاه للتواضع والخدمة. لم يكتفِ بالحث على الطهارة الخارجية بل تحدَّث عن إصلاح المصدر الحقيقي وهو الداخل. أعطى يسوع قيمة وكرامة لكل إنسان، لأشدِّ المُزدرين ولأكبر الخطاة.
يعتقد الكثير من الناس بسبب السمو الكبير لهذا التعليم أَنه مِثالي وغير واقعي. لكن هل ممكن أن يُعلّم المسيح نظريات جميلة إنّما مُستحيلة التطبيق؟ وهو قد أوضح بصريح الكلام أنها شرط لدخول السماء "إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ" (متى 20:5).
أولاً، تَكشِف هذه التعاليم السامية حقيقة الجنس البشري وحاجته. هي نظرة صادقة تُسلِّط الضوء على فساد الإنسان المطلق ومدى بُعدِه عن إلاهه. قد إسْتُعْبِدت إرادة الإنسان وتلوّثَت رَغبَاته وأفكاره بالخطية منذ الولادة، وهو غير قادر على أن يحيا حياة نقيّة، وأصبح يحتاج إلى مُخلِّص ومحرِّر ليختبر إرادة الله لحياته. لا تَقدِر طبيعة الإنسان الساقطة أن تَتَقبّل هذا المستوى فكيف بإمكانِها أن تَعيشَهُ؟ إنَّ تَغيُّر الطبيعة وتجديد القلب وسيطرت المسيح على الحياة هو ما سيجعلها تسير بالبر والتقوى.
هذه التعاليم هي حياة وليست فرائض، هي ثمار وليست طقوس، هي نتيجة وليست وسيلة. هي بكلام أخر نتيجة عمل الله وليست أي عمل بشري للوصول إليه له المجد. وكما قال أحد القديسين، هي ليست طريقَنا إلى السماء بل هي طريق السماء إلينا.
ثانيًا، تَكشِف هذه التعاليم السامية أيضًا شخصية من أتى بها. إنّها كلام سماوي يكشف مصدر ومقام صاحبه "اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ وَالَّذِي مِنَ الأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ وَمِنَ الأَرْضِ يَتَكَلَّمُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ" (يوحنا 31:3). كلام خارج ثقافة وفلسفة هذا العالم يَكشِف تميّز مُطلِقه "أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ." (يوحنا 23:8). فالحل لن يأتي من الأرض ولا مِمَّن تلوَّث بها. فمَن يستطيع أن يرفع خطية العالم عليه أن يكون بلا خطية ومن يستطيع أن يمنح الإنسان قدرة على أن يعيش حياة جديدة بأخلاق سماوية عليه أن يكون هو نفسُهُ سماوي.
إذا وجَد الإنسان نفسه بعيدًا عن هذه الأخلاق فهو صادق وقريب، وإذا وجَد نفسَهُ عاجزًا فهو أقرب للمسيح الذي وحدَهُ يَملِك العلاج والقدرة على التغيير لكن لمن يعترف ويكِفّ عن المحاولات بقوته. وإذا وجَد هذا الإنسان أيضًا في هذه التعاليم رِفعَةً وعُلُوًا مُدرِكاً أنَّ أحدًا لم يتفوّه بهذا قبله ولا بعده، ربَّما يكون قد إنكشف له سرَّ الحياة الأبدية "وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ" (يوحنا 31:20).
رسالة الكلمة - العدد 20
القس طوني سكاف